تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 291 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 291

291 : تفسير الصفحة رقم 291 من القرآن الكريم

** وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنّ بِالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاّ رَحْمَةً مّن رّبّكَ إِنّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً * قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً * وَلَقَدْ صَرّفْنَا لِلنّاسِ فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ فَأَبَىَ أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً
يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, تنزيل من حكيم حميد. قال ابن مسعود رضي الله عنه: يطرق الناس ريح حمراء, يعني في آخر الزمان من قبل الشام, فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية, ثم قرآ ابن مسعود {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} الاَية, ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه, ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فإن هذا أمر لا يستطاع, وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال له ولا عديل له, وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس أن هذه الاَية نزلت في نفر من اليهود جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به, فأنزل الله هذه الاَية, وفي هذا نظر, لأن هذه السورة مكية وسياقها كله مع قريش, واليهود إنما اجتمعوا به في المدينة, فالله أعلم. وقوله {ولقد صرفنا للناس} الاَية, أي بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة, ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه, ومع هذا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً أي جحوداً للحق ورداً للصواب.

** وَقَالُواْ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىَ فِي السّمَآءِ وَلَن نّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبّي هَلْ كُنتُ إَلاّ بَشَراً رّسُولاً
قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا يونس بن بكير, حدثنا محمد بن إسحاق, حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة, عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلاً من بني عبد الدار, وأبا البختري أخا بني أسد, والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود, والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية, وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيهاً ومنبهاً ابني الحجاج السهميين, اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة, فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه, فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك, فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء, وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم, فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك, وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك, لقد شتمت الاَباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الاَلهة وفرقت الجماعة, فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك, فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً, وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا, وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا, وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي ـ فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ما تقولون, ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم, ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً, فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاَخرة, وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً, فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلاداً ولا أقل مالاً, ولا أشد عيشاً منا, فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به, فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا, وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق, وليبعث لنا من مضى من آبائنا, وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب, فإنه كان شيخاً صدوقاً, فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل ؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله, وأنه بعثك رسولاً كما تقول. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بهذا بعثت, إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به, فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم, فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والاَخرة, وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك, فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك, وتسأله فيجعل لك جنات وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة, ويغنيك بها عما نراك تبتغي, فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه, حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل, ما أنا بالذي يسأل ربه هذا, وما بعثت إليكم بهذا, ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً, فإن تقبلوا ما جئتكم به, فهو حظكم في الدنيا والاَخرة, وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك, فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك إلى الله, إن شاء فعل بكم ذلك» فقالوا: يا محمد أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب, فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به, ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به, فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن, وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً, فقد أعذرنا إليك يا محمد, أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلك أو تهلكنا, وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً, فلما قالوا ذلك, قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم, وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم, وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب, فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم, ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك, ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من عذاب, فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً, ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول, وايم الله لوفعلت بذلك لظننت أني لا أصدقك, ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً أسفاً لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه, ولما رأى من مباعدتهم إياه, وهكذا رواه زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس فذكر مثله سواء. وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له, لو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشاداً لأجيبوا إليه, ولكن علم أنهم إنما يطالبون ذلك كفراً وعناداً له, فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناهم ما سألوا, فإن كفروا عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين, وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة ؟ فقال: «بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة, كما تقدم ذلك في حديثي ابن عباس والزبير بن العوام أيضاً عند قوله تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأولون * وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالاَيات إلا تخويف}. وقال تعالى: {وقالو ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً * تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً * بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعير}.
وقوله تعالى {حتى تفجر لنا في الأرض ينبوع} الينبوع: العين الجارية, سألوه أن يجري لهم عيناً معيناً في أرض الحجاز ههنا وههنا وذلك سهل على الله تعالى يسير لو شاء لفعله ولأجابهم على جميع ما سألوه وطلبوا ولكن علم أنهم لا يهتدون كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} وقال تعالى: {ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنو} الاَية.
وقوله تعالى: {أو تسقط السماء كما زعمت} أي أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء وتهوي وتدلي أطرافها, فاجعل ذلك في الدنيا وأسقطها كسفاً, أي قطعاً كقوله {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} الاَية, وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا {أسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصاديقين} فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة, إنه كان عذاب يوم عظيم, وأما نبي الرحمة ونبي التوبة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً, وكذلك وقع فإن من هؤلاء الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه حتى عبد الله بن أمية الذي تبع النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ما قال, أسلم إسلاماً تاماً وأناب إلى الله عز وجل.
وقوله تعالى: {أو يكون لك بيت من زخرف} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: هو الذهب, وكذلك هو في قراءة ابن مسعود: أو يكون لك بيت من ذهب {أو ترقى في السماء} أي تصعد في سلم ونحن ننظر إليك {ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه} قال مجاهد: أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة هذا كتاب من الله لفلان تصبح موضوعة عند رأسه. وقوله تعالى: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسول} أي سبحانه وتعالى وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته, بل هو الفعال لما يشاء إن شاء أجابكم إلى ما سألتم, وإن شاء لم يجبكم, وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وقد فعلت ذلك, وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل.
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا علي ابن اسحاق , حدثنا ابن المبارك, حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زجر عن علي بن يزيد, عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرض علي ربي عز وجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً, فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ـ أو نحو ذلك ـ فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك, وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» ورواه الترمذي في الزهد عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به, وقال: هذا حديث حسن, وعلي بن يزيد يضعف في الحديث.

** وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رّسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السّمَآءِ مَلَكاً رّسُولاً
يقول تعالى: {وما منع الناس} أي أكثرهم {أن يؤمنو} ويتابعوا الرسل إلا استعجابهم من بعثة البشر رسلاً, كما قال تعالى: {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم}, وقال تعالى: {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدونن} الاَية. وقال فرعون وملؤه {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ؟} وكذلك قالت الأمم لرسلهم {إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤ نا فأتونا بسلطان مبين} والاَيات في هذا كثيرة, ثم قال تعالى منبهاً على لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا منه لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته,ولو بعث إلى البشر رسولاً من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه كما قال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} وقال تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفروان} ولهذا قال ههنا {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين} أي كما أنتم فيها {لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسول} أي من جنسهم. ولما كنتم أنتم بشراً بعثنا فيكم رسلنا منكم لطفاً ورحمة.

** قُلْ كَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً
يقول تعالى مرشداً نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الحجة على قومه في صدق ما جاءهم به: إنه شاهد علي وعليكم, عالم بما جئتكم به, فلو كنت كاذباً عليه لا نتقم مني أشد الانتقام, كما قال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه ياليمين ثم لقطعنا منه الوتين}. وقوله {إنه كان بعباده خبيراً بصير} أي عليماً بهم بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية ممن يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة, ولهذا قال:)

** وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مّأْوَاهُمْ جَهَنّمُ كُلّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً
يقول تعالى مخبراً عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه وأنه لا معقب له بأنه من يهده فلا مضل له, ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه أي يهدونهم, كما قال: {من يهد الله فهو المهتد, ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشد} وقوله: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} قال الإمام أحمد, حدثنا ابن نمير, حدثنا إسماعيل عن نفيع قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ قال: «الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم», وأخرجاه في الصحيحين.
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا الوليد بن جميع القرشي حدثنا أبي الطفيل عامر بن واثلة, عن حذيفة بن أسيد قال: قام أبو ذر فقال: يا بني غفار, قولوا ولا تحلفوا, فإن الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين, وفوج يمشون ويسعون, وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار, فقال قائل منهم: هذان قد عرفناهما, فما بال الذين يمشون ويسعون ؟ قال «يلقي الله عز وجل الاَفة على الظهر حتى لا يبقى ظهر, حتى إن الرجل لتكون له الحديقة المعجبة فيعطيها بالشارف ذات القتب فلا يقدر عليها». وقوله: {عمي} أي لا يبصرون, {وبكم} يعني لا ينطقون, {وصم} لا يسمعون, وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكماً وعمياً وصماً عن الحق, فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه {مأواهم} أي منقلبهم ومصيرهم {جهنم كلما خبت} قال ابن عباس: سكنت, وقال مجاهد طفئت, {زدناهم سعير} أي لهباً ووهجاً وجمراً, كما قال: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاب}.